قياس الذكاء من خلال الرسوم
تعد العالمة فلورنس كود إنف(1926) Florence Goodenough صاحبة الفضل في تكوين أول اختبار مقنن لقياس ذكاء الأطفال من رسومهم، وقد استنتجت من أبحاثها، وأبحاث من سبقها أن هناك علاقة وثيقة بين تكوين المفهومات المستنبطة من رسومات الأطفال، وبين ذكائهم العام، فالرسم بالنسبة للطفل الصغير وسيلة للتعبير، ولغة للتفاهم، أكثر مما هو فن لإظهار الجمال. وعلى ذلك نجد صغار الأطفال يرسمون ما انطبع في أذهانهم من مفهومات عن الأشياء، لا ما يشاهدونه أمامهم من هذه الأشياء، وحتى لو وضع شيء مألوف أمام الطفل، وطُلبَ منه أن يرسمه، فإِنه يبدأ مباشرة في الرسم دون أن يهتم كثيراً بالنظر إليه، أو التأمل فيه، ثم أن الصورة التي يرسمها لهذا الشيء المألوف أمامه، قد لا تختلف كثيراً عن رسمه للشيء نفسه لو طلب منه أن يرسمه من الذاكرة.
ومع تطور الطفل سناً وعقلاً، فإنه يتعلم رسم الأشياء كما يراها والانتقال من الطور الأول إلى الطور الثاني، انتقال تدريجي ومستمر. ومن الحقائق الأخرى التي قدمتها الدراسات في مجال فنون الاطفال، مبالغتهم في إظهار الجوانب التي يعطونها أهمية كبيرة، والمبالغة في تصغير العناصر التي لا يهتمون بها، أو حتى حذفها من الرسم، ويرتبط ذلك ايضاً بحاجات الطفل وانفعالاته المختلفة.
وقد دلت نتائج الدراسات أن هنالك تشابها بين رسوم الأطفال بشكل عام، وبين الرسوم البدائية، وإن هناك صلة بين الاتجاهات المتبعة في رسوم الأطفال جميعاً، وتطور تعبيراتهم الفنية بصرف النظر عن بيئاتهم المختلفة، وأفادت النتائج الأكثر تخصصاً في مجال دراسة علاقة الذكاء بالرسم، أن هناك صلة كبيرة بين رسوم الأطفال وقدرات الذكاء لديهم وإن الأطفال ضعاف القدرات العقلية يميلون إلى نقل رسوم الآخرين أكثر من اعتمادهم على أنفسهم في التعبير، وإن الطفل الذي يظهر قدرة فائقة في التعبير الفني غلباً ما يظهر قدرة ملحوظة بالذكاء، فضلاً عن وجود نتائج تشير إلى أن هناك تشابها بين رسوم الأطفال المتخلفين عقلياً وبين من يصغروهم سناً من الأطفال العاديين من ناحية عدم إدراكهم للتفاصيل وعلاقة الأشياء بالنسبة لبعضها البعض (أي التطابق معهم في مستوى العمر العقلي رغم الاختلاف بالعمر الزمني) وتفيد كود إنف أن تلك الملاحظات تتجلى على نحو أكبر في رسوم الأطفال لشكل الإنسان، وربما كان ذلك بسبب، أن شكل الإنسان هو أكثر الأشياء ألفة وأهمية بالنسبة للأطفال. وأن الأطفال حتى سن العاشرة تقريباً يميلون إلى رسم الأشخاص أكثر من الموضوعات الأخرى، مع وجود فروق ملحوظة في رسومهم تبعاً لمتغير النوع (ولد- بنت).
لهذه الأسباب، ولأن شكل الإنسان له من الألفة والبساطة ما يمكّن صغار الأطفال من محاولة رسمه بتفاصيله بشكل يبرز الفروق الفردية لكل منهم، فقد اختير رسم الإنسان بتفاصيله معياراً لقياس الذكاء، وقد فضل رسم الرجل على المرأة أو الطفل، لأنه غالباً ما يكون لزي الرجل طابعاً واحداً في حين أن ملابس النساء والأطفال كثيرة التنوع والاختلاف. وقد وضعت درجات ومعايير ثابتة لكل جزء من أجزاء رسم الرجل، ومدى إكمال عناصر الرسم أو غيابها (وبحسب عمر الطفل) مثلاً وجود الرأس، الساقين، الذراعين، طول الجذع، ظهور الأكتاف، الرقبة، اتصال الذراعين والساقين، وجود الحواس، الملابس وتفاصيل أخرى أكثر دقة، يمنح الطفل عند رسمها درجة محددة، لتشكل بالتالي درجته الكلية التي تقارن بالمعيار الجماعي بالنسبة لعمره.
دراسة الشخصية عن طريق الرسم
إن الاعتقاد بأن كل فرد يضفي على تعبيراته الفنية شيئاً من سمات شخصيته وخصائصها، اعتقاد قديم دعمته الأبحاث الحديثة في ميداني علم النفس والفنون الجميلة، وبخاصة دراسات فرويد Freud الذي يرى الفن مثل الأحلام دلائل يمكن استخدامها لسبر أغوار النفس البشرية. وقد وجدت كارين ماكوفر Karen Machover عندما كانت تقوم بتطبيق اختبار رسم الرجل لقياس ذكاء بعض الأطفال الذين حصلوا على نسب ذكاء متساوية، أنهم يعبرون في رسومهم للرجل عن اتجاهات مختلفة تماماً، وقد عززت ماكوفر هذه الملاحظات بمتابعة تعليقات الأطفال الآنية أثناء رسمهم لصورة الرجل، كما قامت بتطوير الاختبار، بعد أن تأكد لها إمكانية استخدامه بوصفه أداة اسقاطية، حيث جعلته اختباراً لرسم الشخص (أي شخص) بدلاً من رسم الرجل كي يصبح أداة لقياس الشخصية.
وعموماً تستند العديد من أدوات قياس الشخصية من خلال الرسم، على إطار نظري مفاده أن الفرد عندما يطلب منه رسم شخص فسوف يعتمد على مصادر ذهنية لحل هذه المشكلة، ومعنى هذا أنه سيختار من معلوماته الذهنية، وقيمه النفسية شعورياً ولا شعورياً. وبما أن النفس هي المنظار الذي نشاهد من خلاله كل امور حياتنا، وبما أننا خلال فترة نمونا نتعلم أن نربط بين أحاسيس وادراكات وانفعالات خاصة، وبين أعضاء معينة في أجسامنا، فإن هذه الارتباطات والأحداث جميعها لابد وأن تجعل الفرد يتأثر بصورة ذاته عند القيام برسم صورة شخص ما، وعليه فرسم الفرد لصورة شخص ما هي إلا إسقاط لتصوره عن نفسه وجسمه بشكل مباشر أو رمزي مقنع، وهكذا فإن الدراسة السيكولوجية لرسومات الأطفال ستظهر مختلف أنواع الإسقاط بالنسبة لحاجات الجسم ومختلف الصراعات النفسية.
ومن الجدير بالذكر أن العديد من الدراسات التي تعتمد الرسم أسلوبا لفهم الشخصية، قد استعانت بمفاهيم نظرية التحليل النفسي، كمفهوم الحتمية السيكولوجية، ومفهوم رمزية الدوافع اللاشعورية، وهذان المفهومان يؤكدان أن لكل سلوك يقوم به الفرد مهما كان مستغرباً، دلالته ودوافعه السيكولوجية الشعورية واللاشعورية، واعتماداً على هذين المفهومين استخدم فرويد أسلوب التداعي الحر، والتفسير الرمزي للأحلام، وفلتات اللسان للكشف عن محتويات اللاشعور. وعليه فأن لكل سلوك لفظي وحركي يبدر من المفحوص أثناء الرسم وقبله، بالإضافة إلى الرسم نفسه، دلالات سيكولوجية ظاهرة أو لا شعورية موغلة بالرمزية سواء أكانت هذه الدلالات واضحة للفاحص، أو لم تكن واضحة.
ويجب أن لا يفهم أن الإسقاط في الرسوم يتم بوضوح وببساطة دائماً، ففي بعض الحالات يقوم المفحوص بإظهار صراعاته النفسية المتمركزة حول عضو من الأعضاء، أو صفة من صفات الشخصية عن طريق التعويض، بل المبالغة في التعويض، فقد نلاحظ في رسوم طفلة ما تعاني الهزال الشديد، تركيزها على رسم جسم أنثوي ضخم مكتنز الشحم، وعلى العكس فقد تقوم طفلة متضايقة من ازدياد وزنها برسم إمراة نحيفة رشيقة حد المبالغة، أما المراهق الذي يشكو نحافة جسمه، وربما شكل جسمه الأنثوي، فكثيراً ما يرسم شخصاً مفتول العضلات تبدو عليه سيماء الرجولة والخشونة. ومثل تلك الإسقاطات تعبر عن رغبات عميقة الجذور، وربما تعبر بشكل صريح عن ضعف عضوي، أو تعويض مبالغ فيه لهذا الضعف، أو مزيج من هذه العوامل مجتمعة.
كما تفيد نتائج الدراسات أن الإسقاطات النفسية على الرسوم تعكس أيضاً تأثر الأفراد بعوامل أخرى كاتجاهاتهم نحو أشخاص مهمين في حياتهم مثل الوالدين، أو متأثرين بتجارب حياتية وبصيغ تعامل أثارت فيهم أحاسيس انفعالية معينة، أو باتجاهاتهم نحو الجنس الآخر أو المجتمع والحياة من ناحية عامة.
وهناك طرق عديدة لتحليل الرسومات، لكنها مع اختلافاتها الفرعية يمكن تلخيصها في ثلاث نقاط هامة: هي تحليل الرسوم من ناحية الشكل، ثم دراستها دراسة تخطيطية، وبعدها تتم دراسة محتواها في ضوء طروحات نظرية التحليل النفس
عبد الكريم سليم علي / العراق
منقول
تمت
تقبلوا تحيات
أختكم
العنــــود
Bookmarks